«ثلاثيّة الخشب»... أرشيف شخصيّ لمدن من خشب | حوار مع الفرعي

الفنّان الفلسطينيّ طارق أبو كويك «الفرعي»

 

* لا أمنح الممارسة الموسيقيّة وزنًا زائدًا، لن نغيّر الأرض فقط لأنّنا نغنّي. 

* الموسيقى يجب أن تكون شخصيّة، لكنّ الشخصيّ انعكاس ما حوله. 

* أنا ابن تجربتي، وهذه هي تجربتي، هذه هي استمراريّتها وشكلها الحاليّ.

 

أعلن الفنّان الفلسطينيّ طارق أبو كويك، المعروف بـ «الفرعي»، عن إطلاق ألبومه الغنائيّ «ناس من خشب»، في الخامس والعشرين من شباط (فبراير) 2022، متمّمًا به «ثلاثيّة الخشب»، وليكون آخر إصداراتها بعد عشرة أعوام على إطلاق الألبوم الأوّل منها «صوت من خشب» (2012) وبعد خمسة أعوام من إصدار ألبومها الثاني «الرجل الخشبيّ» (2017).

أمضى طارق أبو كويك عقدًا موسيقيًّا اتّسم بالاستمراريّة والالتزام في تجسيد هويّة «الفرعي» المتمثّلة بالبساطة والأدوات المحدودة وعدم الرضوخ للقوالب النمطيّة، وكان أوّل من طرح ثنائيّة الراب إضافة إلى الغناء على نغمات الجيتار في المنطقة العربيّة، أو كما يذكر بيان «الفرعي» الخاصّ بإصدار الألبوم الجديد: "الراب... حتّى لو انقطعت عنّا الكهرباء".

يسعى الألبوم الجديد، وفقًا للبيان، إلى إيجاد قاسم مشترك بين الفروع رغم أنّه مليء بالتساؤلات. كما يمثّل تتمّة لعقد كامل من تجربة موسيقيّة تعود جذورها إلى عمّان، وتحاكي بلاد الشام من شتات فلسطين إلى المهجر، خلال حقبة كانت فيها أزمات العالم العربيّ تنتقل من سيّء إلى أسوأ، لكنّها مع ذلك كانت شاهدة على الأدوات الّتي ابتُدِعَتْ وخُلِقَتْ لغاية التعامل مع هذه الأزمات والمحاولة بطرق أخرى، كما يصف أبو كويك: "الرسالة لم تتغيّر، لكنّ الثيمات تنوّعت".

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع أبو كويك، نتحدّث معه عن ألبومه الجديد «ناس من خشب»، والمسار الّذي قُطِعَ من «صوت من خشب» وحتّى الوصول إلى «ناس من خشب»، والموسيقى البديلة وإمكانيّاتها وموقع الموسيقى البديلة من الهمّ الجمعيّ والفرديّ.

 

فُسْحَة: تكلّمت في أغنية «مهموم»، من ألبوم «ناس من خشب»، عن التنازلات والأثمان وصمت الشوارع والبيوت، وفي فيديو الأغنية تظهر تمثيلات للعنف الأسريّ أو العنف الرمزيّ، وقد تحدّث البيان الصحفيّ الخاصّ بإصدار ألبوم «ناس من خشب» عن الأغنية بوصفها تعبّر عن حالة من الإحباط المرتبطة بجائحة كورونا وما بعدها... ما التساؤلات الّتي تحاول الأغنية طرحها، وما الصدمة النفسيّة الفرديّة أو الجمعيّة الّتي تحاول التقاطها والتعبير عنها؟

طارق: أتخيّل الأمر بهذه الطريقة؛ ثمّة هرم يضيق نزولًا، وفي الفيديو حاولت أن أعبّر عن هذا الضيق داخل العائلة، الأمّ تدفع بالابنة، الأب يضرب الابن، ثمّة رمزيّة هنالك، ولكنّي أريد الحديث عن عاطفة محدّدة كامنة في «مهموم»، وهي الشعور بالاختناق النابع من تتالي الكوارث، ثمّة جائحة تتلوها موجات التطبيع، وثمّة طبقات فوق طبقات من الهموم. وما حاولت التفكير فيه أنّ هذه العاطفة جعلت من الصعب على أيّ شخص أن يتحدّث مثلًا، في القضيّة الفلسطينيّة، من منظور استراتيجيّ، مثل أن تسأل: ما هو حلّ القضيّة الفلسطينيّة؟ لا تستطيع أن تسأل مثل هذا السؤال. هذه هي عاطفة الهمّ الّتي تجعل من بعض الأسئلة مستحيلة حتّى على التأمّل أو التفكير، لا أعرف إن كان كلامي يبدو واقعيًّا أم لا، لكنّ هذا الشعور هو الّذي كان مسيطرًا عليّ حين كتبت الأغنية. بالنسبة لي هي كانت أغنيتي المفضّلة لوقت طويل من الألبوم.

 

فُسْحَة: لنتحدّث بالتفصيل قليلًا عمّا تعنيه بالصدمة أو بالهمّ الّذي تكلّمت عنه سواءً ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة أو جائحة كورونا؛ هل انعدام الأمل هو الشعور المسيطر على الأغنية؟ ثمّة مشاعر الوحدة، ومشاعر الإرهاق والتعب الناشئ عن تتالي الصدمات والكوارث الّتي تحدّثت عنها، وأيضًا الشعور بالخذلان وعدم القدرة أو اليقين من قدرتنا على التواصل مع الآخرين؛ هل هذه كلّها هي المشاعر الّتي حاولت التعبير عنها؟

طارق: ذلك ممكن، في النهاية عندما أكتب يعجبني سماع تأويلات الأغنيات بطرق مختلفة. سأقول إنّ ثمّة نوعًا من القمع المتوارث، وربّما ضرورة لتتبّع مشاعر القمع والانقماع عربيًّا إلى أزمان قديمة لنتمكّن من معرفة مصادرها الأولى. ثمّة ما هو متجذّر وداخليّ فينا، لكنّ السطر الّذي يربط كلمات الأغنية ببعضها هو: "كلّ شي رح ينشف عالكمامة ويروح"؛ كان ممنوعًا على أيّ شخص أن يتحدّث في أيّ شيء غير الكورونا خلال فترة الجائحة، فأصبح ثمّة حاجة ملحّة للقفز إلى مرحلة جديدة، إلى إعادة ضبط لطريقة تفكيرنا في العالم. ثمّة حاجة إلى صراخ حقيقيّ لاستيعاب حجم ما يجري وما جرى حتّى الآن، منذ ما قبل الجائحة وحتّى ما بعدها.

 

فُسْحَة: يمكن القول أنّك عشت فترات طويلة بين هنا وهناك؛ في عمّان، وبعض الوقت في الضفّة الغربيّة، وفترات أخرى طويلة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفي بريطانيا. كيف أثّر هذا التنقّل في سرديّتك الغنائيّة؟ وكان بيان إصدار ألبوم «ناس من خشب» قد ذَكَرَ أنّ بعض الأغاني قد كُتِبَت قبل سنوات من الآن في عمّان وبعضها في لندن... هل ثمّة تشتّت؟ وهل تستمتع بهذا التشتّت أم له تأثير سلبيّ في الأغنية؟

طارق: ثمّة جانب لوجستيّ يتعلّق بإكمال عدد أغنيات الألبوم، فقد تجد بعض الأغاني الّتي كتبتها من قبل ولم أكمل العمل عليها وتجدها متناسقة مع بقيّة الأغاني، لكنّني لست صحيفة إخباريّة حتّى تكون الأغنية دائمًا متعلّقة بالواقع الآن، فثمّة أغانٍ مستقلّة عن بقيّة الألبوم، كينونة وحيدة، أي أنّ ثمّة مرونة.

بالطبع أنا مشتّت، وأحاول التفرّع دائمًا إلى مواضيع مختلفة لأنّني أشعر بالتشتّت الجمعيّ والمحاولة الجمعيّة للملمة أمور الجماعة، وتلك عمليّة ستستغرق وقتًا طويلًا. نحن، الشعوب العربيّة، نتعلّم الآن أشياءً جديدة عن أنفسنا، وعمّن نكون، ولا أريد التطرّق الآن إلى موضوع مفضّل عندي وهو العلاقة بين الفكر الدينيّ والمجتمع، لكن ثمّة إشكاليّة لا تزال حاضرة حتّى الآن عند التطرّق إلى تلك العلاقة. إضافة إلى الاستعمار الصهيونيّ وعديد المشاكل الأخرى الّتي تخلق حالة التشتّت الجمعيّة تلك.

لكن أيضًا ثمّة تشتّت شخصيّ، في الماضي مثلًا، لنقل عام 2012، كنت أشعر أنّني أذكى من البقيّة عندما أكتب أفكاري في الأغنية، ولكنّني الآن أشعر بالانكشاف أمام الجميع، أشعر أنّني أكتب تشتّتي الداخليّ وبوضوح أيضًا لأنّني انعكاس لحالة الفوضى العامّة، ولذلك سمّيت الألبوم الجديد بـ «ناس من خشب».

 

 

فُسْحَة: في «ثلاثيّة الخشب»، كان ثمّة أوّلًا الألبوم الأوّل الّذي صدر عام (2012) وأسميته «صوت من خشب»، ومن ثمّ كان ألبوم «الرجل الخشبيّ»، وكنت أنت ذاك الرجل الخشبيّ، ومن ثمّ كان الألبوم الجديد «ناس من خشب»؛ ثمّة تحوّل هنا منذ وُلِدَ الصوت الخشبيّ الّذي استحوذ عليك ليجعلك رجلًا خشبيًّا إلى أن شعرت بأنّ هذا التخشّب لا يخصّك وحدك بل البقيّة أيضًا، البقيّة هم أيضًا من خشب، هم أيضًا «ناس من خشب».

سأربط هذه الملاحظات بسؤال آخر يتعلّق بالتحوّلات الّتي طرأت على العاطفة في أغنيتك؛ في الماضي كان ثمّة غضب ظاهر، ولكن كأنّ هذا الغضب بدأ يخفت تدريجيًّا مفسحًا المجال لحالات شعوريّة أخرى أشبه بالشرود، أو الحيرة، الّذي جعل صوتك أكثر هدوءًا رغم احتفاظه بالنبرة القويّة نفسها، ولكن كأنّ ثمّة تخلٍّ عن هذا الغضب... هل لإقامتك في لندن دور في تخفيف حدّة غضبك من الواقع العربيّ؟

طارق: في الحقيقة هما السنّ والتجربة اللذان أدّيا دورًا أكبر من لندن، على العكس، لندن زادت من حدّة الغضب، لكنّ الغضب لا زال موجودًا في أغنية «لو صرّخنا» مثلًا، كأنّني جمّعته وكوّمته بكلّيته في تلك الأغنية. لكنّ هذا الغضب كان أكثر حدّة في الماضي، ذلك صحيح، وذلك يعود إلى سبببين؛ الأوّل يتعلّق بأنّني قد تجاوزت الثامنة والثلاثين الآن، ولا أحد سيأخذني بجدّيّة إن صرخت غاضبًا ولذلك لا بدّ من بعض الواقعيّة. الأمر الآخر أنّني في الماضي كنت أصرخ لغضب حقيقيّ، لم أكن أفتعل الغضب بل كان شعورًا يستحوذ عليّ، أمّا الآن فأنا أقرب إلى ما تكلّمت عنه من شرود وحيرة. لديّ أمل حقيقيّ بالتغيير وبقدرتنا على الخروج بأفكار جديدة لا في الموسيقى فحسب بل في كلّ شيء، وكلّ يوم أتمنّى إيجاد مفكّرين فلسطينيّين يسعون إلى تغيير العالم وبعضهم هناك بالفعل.

لا بدّ من الاعتراف بالخطأ حتّى تكون معالجته ممكنة، ولذلك مثلًا تجد ثيمة تعبّر عنها عبارة: "يمكن الغلط فينا"، في ألبوم «ناس من خشب»، وأيضًا ثمّة نفس ساخر في الألبوم يظهر في عبارات مثل: "خايف قصّتنا تضيع بين الهموم... الهموم... الهموم...". أستطيع أن أؤكّد لك أنّ هذا الشعور بالإحباط ظهر لديّ بعد سبع سنوات من العيش في لندن، والبعض قد يسأل: "وماذا استفدنا منك إذن؟"، لكنّني في النهاية ابن تجربتي، وهذه هي تجربتي، هذه هي استمراريّتها وشكلها الحاليّ.

 

فُسْحَة: ألاحظ أنّك دائمًا ما تنطلق من الجمعيّ لتجيب على الفرديّ، إذ تصرّ بصرامة على ربط أغنيتك ونفسك بالجمعيّ. في حوار سابق لك مع موقع حبر قلت أنّك ابن المدينة، ابن عمّان، وأنّك لم تتغيّر وتريد أن تظلّ عمّان مدينة أغنيتك، وأن تستمرّ أغنيتك انعكاسًا للقضايا الّتي شكّلتك من قبل. لكنّ هذا يمكن أن يكون نوعًا من رفض الانفتاح على التجارب الفرديّة الموسيقيّة، فأنت لست مشروعًا جمعيًّا حتّى وإن حاولت أن تكون كذلك، لا أفكّر بالفنّان كمشروع ثوريّ، قد يكون محرّضًا على الثورة، لكنّه لا يجب أن يحصر نفسه في الهمّ الجمعيّ على حساب ما قد يكون تجربة فرديّة استثنائيّة. ثمّة عدد من الموسيقيّين العرب الّذين تحوّلوا من الأغنية الثوريّة الجمعيّة منذ عام 2011 إلى الأغنية الفرديّة، والبديلة أيضًا إن صحّ وصفها بذلك. «تغيّرتي ليه» مثلًا أغنية جمعيّة بطريقة ما لكنّها كذلك سُمِعَتْ، على الأقلّ هكذا سمعتها أنا، بطريقة فرديّة، لقد استُوعِبَتْ لتلائم تجربة فرديّة خاصّة بعيدًا عن الهمّ الجمعيّ، وكذلك أغنية «مهموم» في الألبوم الجديد. لكنّ حتّى في تجربتك مع «47 Soul»، أنت في تجربة جمعيّة، تجرّب في شيء جمعيّ، وليس فرديّ...

طارق: ربّما لأنّني... انظر، كثيرًا ما غصت في الصراع بين الفرديّ والجمعيّ وفكّرت ربّما يكون ثمّة خلطًا زائدًا، والموسيقى هي مهرب يتّسم بالحرّيّة، بحرّيّة الفعل الموسيقيّ. لو كنت أفعل شيئًا آخرًا، مثل كتابة كتاب فكريّ، ربّما سيكون هذا الخلط مخيفًا، لكنّني أعتقد أنّ ثمّة نوستالجيا مكثّفة في أغنيتي، وقد أحببت وصفك لتجربة الألبومات الثلاث لأنّ هذا ما حدث فعلًا؛ فأنا لم أخطّط لأيّ شيء حدث أو أنتجته أو غنّيته قبل عشر سنوات في عام 2012 مثلًا، هذا ما فعلته السنين فحسب. في «رجل خشبيّ» كان ثمّة الشعور بالذنب وربّما فيه بعض الأنانيّة ولكنّني في الألبوم قلت للجميع أنا لست جيفارا في نوع من السخرية وحتّى طلبت من الجميع أن لا يسمعونني. واليوم أقول إنّ الخطأ قد يكون فينا، وبنوع من السخرية أيضًا، كأنّني أقول للجميع إنّكم مثلي متناقضون، وهذه هي العاطفة الّتي أبني عليها، وبالطبع الموسيقى يجب أن تكون شخصيّة، لكنّ الشخصيّ انعكاس ما حوله، وكلّ شخصيّ يعبّر عن نفسه وهذا التعبير تمثيل للطريقة الّتي كان فيها الشخصيّ انعكاس للجمعيّ، كلّ في مكانه، في كتابته، في صورته، وأنا في أغنيتي.

 

 

فُسْحَة: في أغنية «ثغرة» تعود لتذكير الجميع بأنّك ستستمرّ بالغناء على طريقتك الخاصّة، وفي الأغنية نفسها ثمّة تحيّة لكلّ ما مضى، وقد أحببت هذه التحيّة، فعندما تحيّي الماضي تكون مستعدًّا للمستقبل...

طارق: أشكرك جدًّا أخي على هذا التأويل، هذه هي تمامًا العاطفة.

 

فُسْحَة: إذن ما هو المستقبل الّذي تشعر بالاستعداد لقدومه وما الماضي الّذي تشعر بأنّك أحسنت صنعًا في عيشه؟

طارق: بالنسبة للمستقبل فأشعر بقدومه وأفعل ما يجب لأكون مستعدًّا لكلّ ما يحمله، لكن بالنسبة للماضي، فإن عدت إلى ما قبل 15 أو 16 عامًا إلى مدينة مثل عمّان، لوجدت أنّ الغناء بلهجتنا خارج النطاق الوطنيّ لم يكن موجودًا، وفي فلسطين أيضًا ولبنان وكذلك سوريّا بدرجة أقلّ. أوّل ما فعلناه كان الغناء بلهجتنا، وساهم ذلك الغناء في تقصير المسافات بيننا وبين مناطق عربيّة أخرى، كذلك كان لديّ توجّه برفقة آخرين أن لا نغنّي فقط بلهجتنا، بل أن نتناول من خلال الأغنية مواضيع اجتماعيّة وسياسيّة إلى أن وقعت التحوّلات السياسيّة الكبرى في المنطقة عام 2011 وما رافقها من ثورات عربيّة، وأصبح من الشائع أن تغنّي مثل تلك الأغاني. لكن بحلول عام 2014 حدثت الردّة على الثورات وظهرت الصراعات الدينيّة لتحلّ محلّ السياسيّة والاجتماعيّة، وفي ذلك الوقت غنّيت أغنية «فتنة»، الّتي كنت قد كتبتها قبل ذلك بوقت طويل عن صراع سنّيّ شيعيّ بين بعض أصدقائي، وكانت ملائمة لتوضع في ألبوم «الرجل الخشبيّ». اليوم ثمّة توجّه لغناء الشخصيّ، وشعور بأنّ القضايا الكبرى أصبحت مكرورة في الأغنية البديلة، فحدثت العودة إلى الشخصيّ وحتّى الأعمق من الشخصيّ من خلال تناول الأزمات النفسيّة الشخصيّة، وذلك لا بأس به ولا أمانعه، على العكس، لكن بالنسبة إليّ، تلك الأغنية لم تنتهي بعد، فثمّة أسئلة كثيرة لا تزال من دون إجابات؛ ما الأنظمة السياسيّة الّتي تحكمنا؟ ما نوعها؟ ماذا عن فلسطين؟ ماذا سنفعل بقضيّة فلسطين؟ ما الحكم الّذي نريده... ديمقراطيّ؟ مدنيّ؟ وبالنسبة لفلسطين فالاستيطان في توسّع دائم ورأينا جميعًا تطبيع عدد من الأنظمة العربيّة لعلاقاتها مع إسرائيل. إذن، ماذا عن هذا كلّه؟ ولذلك أشعر بأنّنا فعلنا حسنًا أن أسّسنا أرضيّة للأغنية الّتي تناقش هذا كلّه.

 

فُسْحَة: خلال العقد الأخير عشنا عددًا هائلًا من الأحداث الّتي شكّلت عالمنا كما نعرفه اليوم بشكل جذريّ؛ ثمّة الثورات العربيّة، والحروب الإسرائيليّة المتتالية على قطاع غزّة والفلسطينيّين في كلّ فلسطين التاريخيّة، وجائحة كورونا، وغيرها عديد الأحداث الّتي أثّرت على شعوب المنطقة بطرق مختلفة. كانت الموسيقى البديلة مهربًا، أو حتّى أداة استُخْدِمَتْ للتعامل مع تقلّبات الواقع، كانت أداة للمواساة وللتحريض، وأحيانًا كانت تعبّر عن مشاعر لم يكن لدينا الوقت الكافي لمعالجتها وفهمها. لكن ثمّة ما يثير الحنق قليلًا حول الموسيقى البديلة العربيّة الّتي تنتج في أوروبّا أو على الأقلّ خارج المنطقة العربيّة، فتكتب المدينة العربيّة وترسم صورة نوستالجيّة متخيّلة لها لا علاقة لها بالواقع، وأكثر من ذلك هي نقيض للواقع. ثمّة مسؤوليّة لا بدّ من أن تدفع الفنّ البديل إلى التفكير في طبيعة الموسيقى الّتي نحتاجها الآن، الموسيقى الّتي بإمكانها استخراج أطنان من الطاقات المدفونة تحت ركام خيبات العقد الماضي، الموسيقى غير الرومانسيّة ولا النوستالجيّة. لا أكترث بشكل عمّان أو رام الله كيف كانت قبل عشر سنوات وإن كانتا أكثر قباحة أو أقلّ دفئًا ممّا هما عليه اليوم... ما أقوله ولا أعرف إن كان واضحًا، أنّ الأغنية البديلة في الماضي كانت قادرة على التقاط الحالات الشعوريّة المتعدّدة الّتي نعيشها ولم نُسمّها بعد، بينما الآن، يبدو أنّها لا تعرف ما تقول بعد، وثمّة ضرورة وضرورة ملحّة لشيء جديد، لموسيقى جديدة.

طارق: كان ثمّة شعور بالمسؤوليّة، وهذا ما يدفعني اليوم إلى محاولة الوصول إلى خاتمة موسيقيّة لعقد كامل من الموسيقى، فثمّة ضرورة لأرشفة هذه الحقبة واختتامها لأتفرّغ للمستقبل ولما هو آتٍ. كموسيقيّ بدأت أشعر أنّني أريد التعبير عن كلّ الأمور المعقّدة حتّى وإن كتبتها على شكل مقالات أو أفكار دون نشرها، لكن ثمّة ضرورة لفعل ذلك لأنّ الموسيقى في بعض الأحيان لم تعد قادرة على استيعاب الفكر. أحيانًا أشعر أنّي ظُلِمتُ أيضًا، في النهاية أنا شابّ يحبّ كتابة الراب وأن ينتج الموسيقى والأصوات المختلفة بأدوات ولغات مختلفة لا علاقة لها بمَنْ أنا ومن أين جئت وما هي مشاكلي. أريد الانتقال إلى هناك، ولديّ عديد التجارب المأزومة. لم أكن الشخص الملتزم بهذا الخطّ منذ بداية مشروعي، انسَ الأشياء المعروفة، ولكن إن حاول أحد تتبّع خطّي الموسيقيّ لوجد أنّني لا أتكلّم عن هذه القضايا الكبرى فحسب، بل هي الثيمة المسيطرة فقط.

 

 

ما تقوله صحيح مئة بالمئة، أنا أيضًا في ذلك المكان، ولكن كان ثمّة سبب لماذا كان عليّ أرشفة واختتام هذا العقد من الموسيقى، وإن كان ثمّة مخاطرة في أن يقول أحدهم أنّني لم أستيقظ بعد منذ عام 2011 وأنّني عالق في المكان ذاته، ومع ذلك، كان لا بدّ من أرشفة تاريخي الموسيقيّ. هكذا أكون انتهيت من أداء واجباتي وأرشفت عقدًا من الموسيقى بإمكان الناس العودة إليه والاستماع لقصّتنا، أو قصّتي، إن شاؤوا فعل ذلك.

لكنّي الآن مستعدّ للمستقبل وأجهّز لأنواع مختلفة من الموسيقى، ومستعدّ لانقلابات المزاج الموسيقيّ العامّ. لكنّني سأخذ الرأي من أولئك الّذين استمعوا فعلًا للمشروع واطّلعوا عليه بعمق، أمّا مَنْ يراني كمغنّي أغنية «تغيّرتي ليه» وسيفاجأ إن وجدني أتحدّث عن مخيّم جنين، فلن أستمع إليه. أريد من ينصفني، وينصف مشروعي الموسيقيّ.

لقد مللت مثلك من النوستالجيا الزائدة، وقد وضعتها في آخر الألبوم كنوع من السخرية من خلال أغنية فيها أطفال وكمنجات، ولكنّي كما قلت في الألبوم، إنّ الاستمرار في تربية الأمل غير كافٍ، وهذه مجرّد أغنية لا أكثر. لعلّ هذه التجربة تقرأ بطريقة مختلفة بعد عامين من الآن عندما تصدر الإنتاجات الجديدة. أريد وضع أهداف لنفسي والوصول إليها، وأتساءل في بعض الأحيان إن كنت نجحت في بناء مشروع ناجح بالمعنى الموسيقيّ والتجاريّ، وبمعنى بناء مشروع قادر على التوسّع كشركة إنتاج تدعم الآخرين وتشكّل حلقة بناء وتواصل بين الموسيقيّين. إن تمكّنت من الوصول إلى هذا المكان ستكون العمليّة قد انتهت، وسأستمرّ في الكتابة لا أكثر، لا أمنح الممارسة الموسيقيّة وزنًا زائدًا، لن نغيّر الأرض فقط لأنّنا نغنّي.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.